الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به اعلم أن هذا أمر غامض وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن الله تعالى يقول للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها شيئة وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً وقد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة. وفي لفظ آخر " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت " وفي لفظ آخر " وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها " وكل ذلك يدل على العفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وقوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً " فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " وقوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح. فنقول. أول ما يرد على القلب الخاطر كما لو خطر له مثلاً صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها. والثاني هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة في الطبع وهذا يتولد من الخاطر الأول ونسميه ميل الطبع ويسمى الأول حديث النفس. والثالث حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل ويسمى هذا اعتقاداً وهو يتبع الخاطر والميل. الرابع تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصداً وهذا الهم قد يكون له مبدأ ضعيف ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيترك العمل وربما يغفل بعارض فلا يعمل به ولا يلتفت إليه وربما يعوقه عائق فيتعذر عليه العمل. فههنا أربع أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة: الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم الاعتقاد ثم الهم. فنقول: أما الخاطر فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلك الميل وهيجان الشهوة لأنهما لا يدخلان أيضاً تحت الاختيار وهما المرادان بقوله صلى الله عليه وسلم " عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها " فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل فأما الهم والعزم فلا يسمى حديث النفس بل حديث النفس كما روى عثمان بن مظعون حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة قال " مهلاً إن من سنتي النكاح " قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي قال: " مهلاً خصاء أمتي دءوب الصيام " قال: نفسي تحدثني أن أترهب قال " مهلاً رهبانية أمتي الجهاد والحج " قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم قال " مهلاً فإني أحبه ولو أصبته لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس ولذلك شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه عزم وهم بالفعل. وأما الثالث: وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا تردد بين أن يكون اضطراراً أو اختياراً والأحوال تختلف فيه فالاختياري منه يؤاخذ به والا ضطراري لا يؤاخذ به. وأما الرابع وهو الهم بالفعل: فإنه مؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن كان قد تركه خوفاً من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفة الطبع هو العمل لله تعالى والعمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع فكتب له حسنة لأنه رجح جده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه بعذر لا خوفاً من الله تعالى كتبت عليه سيئة فإن همه فعل من القلب اختياري. والدليل على هذا التفصيل ما روي في الصحيح مفصلاً في لفظ الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قالت الملائكة عليهم السلام رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه فإن هو عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي وحيث قال: فإن لم يعملها: أراد به تركها لله فأما إذا عزم على فاحشة فتعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف تكتب له حسنة وقد قال صلى الله عليه وسلم " إنما يحشر الناس على نياتهم " ونحن نعلم أن من عزم ليلاً على أن يصبح ليقتل مسلماً أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصراً ويحشر على نيته وقد هم بسيئة ولم يعملها. والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال " لأنه أراد قتل صاحبه " وهذا نص في أنه صار بمجرد الإرادة من أهل النار مع أنه قتل مظلوماً فكيف يظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم بل كل هم دخل تحت اختيار العبد فهو مؤاخذ به إلا أنه يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتبت له حسنة فأما فوت المراد بعائق فليس بحسنة. وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت اختيار فالمؤاخذة به تكليف ما لا يطاق ولذلك لما نزل قوله تعالى " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثم يحاسبه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: " لعلكم تقولون كما قالت اليهود سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا " فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به. فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس. وكل من يظن أن ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أي ما يدخل تحت الاختيار. فلو وقع البصر بغير اختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذاً به لأنه مختار فكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التقوى ههنا وأشار إلى القلب " وقال الله تعالى " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وقال صلى الله عليه وسلم " الإثم حواز القلوب وقال " البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوك وأفتوك " حتى إنا نقول إذا حكم القلب المفتى بإيجاب شيء وكان مخطئاً فيه صار مثاباً عليه بل من قد ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي. فإن صلى ثم تذكر أنه لم يتوضأ كان له ثواب بفعله. فإن تذكر ثم تركه كان معاقباً عليه. ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية. فإن ظن أنها أجنبية ثم وطئها عصى بوطئها وإن كانت زوجته. وكل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح. اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل لأنه عليه السلام قال " فإذا ذكر الله خنس والخنس هو السكوت فكأنه يسكت. وقالت فرقة: لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه قد يتكلم ولا يفهم وإن كان الصوت يمر على سمعه. وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً ولكن تسقط غلبتها فكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف.
وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظه ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا. وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاً لا ينقطع وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين فقد قال صلى الله عليه وسلم " ما من عبد إلا وله أربعة أعين: عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه وإلى هذا ذهب المحاسبي. والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه. والوسواس أصناف: الأول: أن يكون من جهة التلبيس بالحق فإن الشيطان قد يلبس بالحق فيقول للإنسان تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه وقال لنفسه: الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب إذا لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ولا يمكنه أن يقول المعصية لا تفضي إلى النار فإن إيمانه بكتاب الله عز وجل يدفعه عن ذلك فينقطع وسواسه. وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول: أي عبد يعرف الله كما تعرفه ويعبده كما تعبده فما أعظم مكانك عند الله تعالى! فيتذكر العبد حينئذ أن معرفته وقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه. فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة. الصنف الثاني: أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها وهذا ينقسم إلى ما يعلم العبد يقيناً أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن. فإن علمه يقيناً خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم بخنس عن التهييج وإن كان مظنوناً فربما يبقى مؤثراً بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنها مدفوعة غير غالبة. الصنف الثالث: أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة والتفكر في غير الصلاة مثلاً فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود ويندفع ويعود فيتعاقب الذكر والوسوسة وبتصور أن يتساوقا جميعاً حتى يكون الفهم مشتملاً على فهم معنى القراءة وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب. وبعيد جداً أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر ولكنه ليس محالاً إذا قال عليه السلام " من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمر الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه فلولا أنه متصور لما ذكره إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر فإنا قد نرى المستوعب القلب بعدو تأذى به قد يتفكر بمقدار ركعتين وركعات في مجادلة عدوه بحيث لا يخطر بباله غير حديث عدوه وكذلك المستغرق في الحب قد يتفكر في محادثة محبوبه بقلبه ويغوص في فكره بحيث لا يخطر بباله غير حديث محبوبه ولو كلمه غيره لم يسمع ولو اجتاز بين يد أحد لكان كأن لا يراه. وإذا تصور هذا في خوف من عدو وعند الحرص على مال وجاه فكيف لا يتصور من خوف النار الحرص على الجنة ولكن ذلك عزيز لضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وإذا تأملت جملة هذه الأقسام وأصناف الوسواس علمت أن لكل مذهب من المذاهب وجهاً في محل مخصوص. وبالجملة فالخلاص من الشيطان في لحظة أو ساعة غير بعيد ولكن الخلاص منه عمراً طويلاً بعيداً جداً ومحال في الوجود ولو تخلص أحد من وساوس الشيطان بالخواطر وتهييج الرغبة لتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي: أنه نظر إلى علم ثوبه في الصلاة فلما سلم رمى بذلك الثوب وقال " شغلني عن الصلاة " وقال " اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته وكان في يده خاتم من ذهب فنظر إليه وهو على المنبر ثم رمى به قال " نظرة إليه ونظرة إليكم وكان ذلك لوسوسة الشيطان بتحريك لذة النظر إلى خاتم الذهب وعلم الثوب - وكان ذلك قبل تحريم الذهب فلذلك لبسه ثم رمى به - فلا تنقطع وسوسة عروض الدنيا ونقدها إلا بالرمي والمفارقة فما دام يملك شيئاً وراء حاجته ولو ديناراً واحداً لا يدعه الشيطان في صلاته من الوسوسة في الفكر في ديناره وأنه كيف يحفظه وفيماذا ينفقه وكيف يخفيه حتى لا يعلم به أحد وكيف يظهره حتى يتباهى به إلى غير ذلك من الوساوس. فمن أنشب مخالبه في الدنيا وطمع في أن يتخلص من الشيطان كان كمن انغمس في العسل وظن أن الذباب لا يقع عليه فهو محال. فالدنيا باب عظيم لوسوسة الشيطان. وليس له باب واحد بل أبواب كثيرة. قال حكيم من الحكماء: الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة فإن أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرم ما ليس بحرام فإن أبى شككه في وضوئه وصلاته حتى يخرجه عن العلم فإن أبى خفف عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفاً فتميل قلوبهم إليه فيعجب بنفسه وبه يهلكه وعند ذلك يشتد إلحاحه فإنها آخر درجة ويعلم أنه لو جاوزها أفلت منه إلى الجنة. اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتتغير صفته. فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره. وإن جذبه مالك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان - ولا يكون قط مهملا ً - وإليه الإشارة بقوله تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " ولاطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عجيب صنع الله تعالى في عجائب القلب وتقلبه كان يحلف به فيقول " لا ومقلب القلوب وكان كثيراً ما يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالوا أو تخاف يا رسول الله قال " وما يؤمنني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وفي لفظ آخر " إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ". وضرب له صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثلة: فقال " مثل القلب مثل العصفور يتقلب في كل ساعة " وقال عليه السلام " مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غليانا وقال " مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن " وهذه التقلبات وعجائب صنع الله تعالى في تقلبها من حيث لا تهدى إليه المعرفة لا يعرفها إلا المراقبون والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.
والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة: قلب عمر بالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق تنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب ومداخل الملكوت فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر له ليعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده فينكشف له بنور البصيرة وجهه فيحكم بأنه لا بد من فعله فيستحثه عليه ويدعوه إلى العمل به وينظر الملك إلى القلب فيجده طيباً في جوهره طاهراً بتقواه مستنيراً بضياء العقل معموراً بأنوار المعرفة فيراه صالحاً لأن يكون له مستقراً ومهبطاً فعند ذلك يمد بجنود لا ترى ويهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير وكذلك على الدوام ولا يتناهى إمداده بالترغيب بالخير وتيسير الأمر عليه. وإليه الإشارة بقوله تعالى " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى " وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفي فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء فلا يخفى على هذا النور خافية ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان بل يقف الشيطان ويوحي زخرف القول غروراً فلا يلتفت إليه وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معموراً بالمنجيات - التي سنذكرها - من الشكر والصبر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك. وهو القلب الذي أقبل الله عز وجل بوجهه عليه وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وبقوله عز وجل " يا أيتها النفس المطمئنة ". القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى المدنس بالأخلاق المذمومة والخبائث المفتوح فيه أبواب الشياطين المسدود عنه أبواب الملائكة. ومبدأ الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه ويستكشف وجه الصواب فيه فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى وأنس به واستمر على استنباط الحيل له وعلى مساعدة الهوى فتستولي النفس وتساعد عليه فينشرح الصدر بالهوى وتنبسط فيه ظلماته لانحباس جند العقل عن مدافعته. فيقوى سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني ويوحي بذلك زخرفاً من القول غروراً فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد ويخبو نور اليقين لخوف الآخرة إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئ أنواره فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها فلا يقدر على أن ينظر وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار ولو بصره واعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم وصم عن السمع وهاجت الشهوة فيه وسطا الشيطان وتحركت الجوارح على وفق الهوى فظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من عالم الغيب بقضاء من الله تعالى وقدره. وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى " أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " وبقوله عز وجل " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " وبقوله " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات كالذي يتورع عن بعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجهاً حسناً لم يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساك قلبه أو كالذي لا يملك نفسه فيها فيه الجاه والرياسة والكبر ولا يبقى معه مسكة للتثبت عند ظهور أسبابه أو كالذي لا يملك نفسه عند الغضب مهما استحقر وذكر عيب من عيوبه أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فينسى فيه المروءة والتقوى فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلى القلب حتى يظلم وتنطفئ منه أنواره فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان ويسعى في تحصيل مراد الشيطان. القلب الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة وتحسن التمتع والتنعم فينبعث العقل إلى خاطر الخير ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلة اكتراثها بالعواقب فتميل النفس إلى نصح العقل فيحمل الشيطان حملة على العقل فيقوي داعي الهوى ويقول ما هذا التحرج البارد ولم تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك وهل ترى أحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه أفتترك لهم ملاذ الدنيا يتمتعون بها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروماً شقياً متعوباً يضحك عليك أهل الزمان أفتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان قد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يتمنعوا أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ولو كان ذلك شراً لامتنع عنه فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول هل لك إلا من اتبع لذة الحال ونسى العاقبة أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك ولا تستثقل ألم النار أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان مع أن عذاب النار لا يخففه عنك معصية غيرك أرأيت لو كنت في يوم صائف شديد الحر ووقف الناس كلهم في الشمس وكان لك بيت بارد أكنت تساعد الناس أو تطلب لنفسك الخلاص فكيف تخالف الناس خوفاً من حر الشمس ولا تخالفهم خوفاً من حر النار فعند ذلك تمتثل النفس إلى قول الملك فلا يزال يتردد بين الجندين متجاذباً بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلب الشيطان ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان معرضاً عن حزب الله تعالى وأوليائه ومساعداً لحزب الشيطان وأعدائه وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى وإن كان الأغلب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآخرة بل مال إلى حزب الله تعالى وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن - أي بين تجاذب هذين الجندين وهو الغالب - أعني التقليب والانتقال من حزب إلى حزب أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو مع حزب الشيطان فنادر من الجانبين وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطة خزانة القلب فإنه من خزائن الملكوت وهي أيضاً إذا ظهرت كانت علامات تعرف أرباب القلوب سابق القضاء. فمن خلق للجنة يسرت له أبواب الطاعات ومن خلق للنار يسرت له أسباب المعاصي وسلط عليه أقران السوء وألقي في قلبه حكم الشيطان فإنه بأنواع الحكم يغر الحمقى بقوله: إن الله رحيم فلا تبال وإن الناس كلهم ما يخافون الله فلا تخالفهم وإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غداً " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً " يعدهم التوبة ويمنيهم المغفرة فيهلكهم بإذن الله تعالى بهذه الحيل وما يجري مجراها فيوسع قلبه لقبول الغزور ويضيقه عن قبول الحق وكل ذلك بقضاء من الله وقدر " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء - إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده " فهو الهادي والمضل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. خلق الجنة وخلق لها أهلاً فاستعملهم بالطاعة وخلق النار وخلق لها أهلا فاستعملهم بالمعاصي. وعرف الخلق علامة أهل الجنة وأهل النار فقال " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " ثم قال تعالى فيما روى عن نبيه صلى الله عليه وسلم " هؤلاء في الجنة ولا أبالي ولنقتصر على هذا القدر اليسير من ذكر عجائب القلب فإن استقصاء لا يليق بعلم المعاملة وإنما ذكرنا منه ما يحتاج إليه لمعرفة أغوار علوم المعاملة وأسرارها لينتفع بها من لا يقنع بالظواهر ولا يجتزئ بالقشر عن اللباب بل يتشوق إلى معرفة دقائق حقائق الأسباب. وفيما ذكرناه كفاية له ومقنع إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق. تم كتاب عجائب القلب ولله الحمد والمنة. ويتلوه كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق والحمد لله وحده وصلى الله على كل عبد مصطفى.
|